الصورة من برنامج "إيراسموس" - جامعة ريغا للتقنية

الصورة من برنامج "إيراسموس" - جامعة ريغا للتقنية

البلطيق بعيون شمال إفريقيّة.. كيف جمع "إيراسموس" بين عالمّين  مختلفيّن

علي محفوظ

"مالذي يمكن أن تعرفه شابّة عشرينيّة من شمال إفريقيا عن ثقافة منطقة البلطيق؟" هذا ما تساءلت عنه "إسراء بيالة" من العاصمة الليبيّة طرابلس، بعد أن تم إختيارها للمشاركة ضمن برنامج "إيراسموس" للتبادل الثقافي في صيف 2019 بجامعة "ريغا" في لاتفيا
 

لم تدرِ "إسراء" أن هذه الفرصة ستغيّر كثيراً في مسارها المهني والتعليمي، وأنها ستفتح لها أبواباً كثيرة وتقوّي من شبكة علاقاتها مع أقرانها من مختلف دول العالم، والذي جمعهم "إيراسموس" تحت سقف واحد بقيم ومفاهيم تركّز على التنوّع الثقافي ودعم التعددّية الفكريّة واحترام الآخر وهي ذاتها نفس القيم التي يدعمها الاتحاد الأوروبي - الجهة الراعية الرئيسيّة لهذا البرنامج - إلى جانب العديد من المؤسسات التعليميّة المرموقة في أوروبا، والتي استضافت مئات الآلاف من الخريجين الدوليين عبر العقدين الماضيين.
 

بعد أن تمّ اختيارها، بحثت "إسراء" عن موقع لاتفيا وثقافتها وطقسها، ووسعت نطاق بحثها ليشمل دول البلطيق الأخرى والتي تجاور لاتفيا كإستونيا وليتوانيا، وأعجبها التنوع في العادات واللغات والطبخ، وفي نفس الوقت التقارب في العديد من المجالات كوجود تلك البلدان تحت سقف منطقة جغرافيّة واحدة "شنغن"، ووحدتها الاقتصاديّة تحت راية عملة واحدة "اليورو"، وسهولة التنقّل والتعاملات الماليّة دون الحاجة لجوازات سفر أو تغيير للعملة، الأمر الذي جعلها تكتشف أهميّة التكتل الأوروبي على أرض الواقع 
 

كان التحدّي الرئيسي بالنسبة لإسراء هي العادات المحليّة في ليبيا، والتي تضيّق على سفر الفتيات بمفردهنّ دون مرافق، بالإضافة إلى عدم الاستقرار الأمني والاشتباكات المسلحة التي كانت قريبة من المطار والتي تقفله تارةً وتفتحه تارة أخرى، ولكنها في النهاية نجحت في كسب تأييد عائلتها والتي دعمتها نظراً للسمعة الإيجابيّة التي يحظى بها "إيراسموس" ورغبتها في التعلم وحماسها الشديد للتجربة، حيث كانت تلك المرة الأولى التي تسافر فيها لوحدها وتتعامل فيها مع موظفي السفارات وخطوط الطيران بشكل مباشر وتحتكّ بالعالم الخارجي في بيئة متنوّعة وجديدة تماماً وبعيدة عن أسرتها ووطنها
 

إلى جانب كل ذلك، فقد كان الحصول على التأشيرة أمراً مضنياً بحد ذاته نظراً لعدم وجود أي سفارة أو خطوط طيران أوروبيّة تسيّر رحلاتها نحو ليبيا في تلك الفترة واضطرارها للسفر إلى تركيا للحصول عليها، حيث انتظرت لأسابيع قبل أن يأتيها الرد بالقبول وتتمكن من السفر إلى ريغا عبر اسطنبول بعد طول انتظار 
 

بعد وصولي أخيرًا، شعرت بأنني دخلت عالماً آخر مختلف تماماً عمّا عهدته، وجوه وملامح جديدة وطقس مختلف، بدأت تعلّم اللغة اللاتفيّة، ولكنها كانت صعبة خصوصاً في قواعدها اللغويّة ومفرداتها حيث أنها بعيدة عن اللغة الإنكليزيّة، وبرغم ذلك كان الكل منفتحاً على الأمر ولم يشكّل ذلك عائقاً أمام اندماجي في الجامعة أو في الأنشطة الخارجيّة"، هكذا تحدثت "إسراء" عن انطباعها الأول فور وصولها إلى لاتفيا، "كما أن الأشخاص ودودون ومرحّبين وليسوا باردين كما يٌشاع عنهم"، كما أنها لا تخفي أن الطقس البارد كان هو الآخر تحدياً كبيراً نظراً للاختلاف الكبير بين طقس ريغا وطرابلس ودرجات الحرارة الصفريّة التي لم تعتد عليها، كما كانت تواجه إشكاليّة في تناول الطعام والذي كان يختلف كلياً عن ثقافتها، لكنها كانت سعيدة بتفهّم موظفي الجامعة والذين وفّروا لها مساحة كافية للطهو إلى جانب زملائها وزميلاتها في البرنامج
 

ورغم كل ذلك، تتحدّث "إسراء" بسعادة عن النتائج التي أثمرتها تلك التجربة، حيث كوّنت من خلالها العديد من المعارف وشاركت في أنشطة مختلفة وزارت العديد من المواقع التاريخيّة في ريغا وتالين وفيلنيوس، وتعرّفت على تفاصيل حياة السكان ونمط معيشتهم خصوصاً ما بعد الحرب العالميّة الثانية والحقبة السوفييتيّة، إضافةً للمحتوى التعليمي الغني الذي اكتسبته من جامعة ريغا ومن برنامج "إيراسموس" عموماً.
 

داخل الحرم الجامعي
 

لم تواجه "إسراء" أي عقبات أثناء بدء عامها الدراسي في جامعة ريغا للتقنية، حيث كان كل شيء منظماً وسلساً والكل متعاونًا سواءً من فريق "إيراسموس" أو الكليّة المستضيفة، كما فوجئت برغبة زملائها وزميلاتها في معرفة المزيد عن ليبيا وما يحدث فيها، واهتمام البرنامج بتنظيم معارض خاصة بالتبادل الثقافي، حيث يمكن للمشاركين/ات إبراز ثقافاتهم ولغاتهم ومطابخهم ومشاركتها مع السكان المحليين الذين أبدوا اهتمامهم وعرّفوا بأبرز ما تشتهر به لاتفيا، كما كان هناك حضور من بعض الأقران الذين قدموا من إستونيا وليتوانيا والذين كانوا بنفس درجة الحماس للمشاركة في الحدث 
 

يقول أحد زملاء "إسراء" بأن غالبيّة سكان شمال إفريقيا والشرق الأوسط ليسوا على إطلاع كبير على منطقة البلطيق أو على ثقافاتها أو تاريخها، حيث أن هناك نظرة عامّة عنها أنها جمهوريّات اشتراكيّة لا تزال تعيش على إرث الاتحاد السوفييتي السابق وليس فيها ما يثير الاهتمام، إلا أنه فوجئ - بفضل الفرصة التي أُتيحت له من "إيراسموس" - بأنها دول متطوّرة واقتصاداتها تسير نحو الحداثة، وسكانها (خصوصاً الجيل الجديد) متعطّشون للتواصل مع أقرانهم من دول العالم والمشاركة بقوّة وفعاليّة في سياسات الاتحاد الأوروبي، مؤكداً على أهميّة البرنامج وتوسيع قاعدته ليشمل المزيد من الطلاب لزيادة الحوار بين الحضارات والثقافات المختلفة وتذويب الفوارق والموانع بينها
 

كما تحدّث عن حماسه ومشاركته في الترويج لـ"إيراسموس" فور عودته إلى بلاده ضمن ورش عمل للتعريف بالبرنامج لإتاحة الفرصة أمام أقرانه من الطلاب الراغبين/ات والمهتمين/ات بالتبادل الثقافي واكتشاف دول جديدة للتقديم للحصول على فرصة مدفوعة لاستكمال برامجهم الجامعيّة في إحدى دول الاتحاد الأوروبي

  ماذا بعد "إيراسموس"؟


لم تكن نهاية فترة برنامج "إيراسموس" هي الختام بالنسبة لإسراء ومئات الآلاف من زملائها، بل كانت البداية في مشوارهم المهني والتعليمي حيث تم استيعابهم/ن ضمن برنامج مخصص للخرّيجين/ات يتيح لهم المزيد من الموارد لتنمية قدراتهم/ن وتمويل مشاريع ومبادرات في مجتمعاتهم/ن الأصليّة، إضافةً للتشبيك المتواصل عبر العديد من ورش العمل والملتقيات الافتراضيّة بين المشاركين/ات السابقين/ات ونظرائهم/ن الجدد على مستوى القارّة الأوروبيّة والعالم. 
 

تتحدّث "إسراء" بإيجاز عن تجربتها مع "إيراسموس" بقولها: "كان هذا البرنامج  نقطة فاصلة في حياتي وإضافة قيّمة في سيرتي الذاتيّة، فبعد أن عدت إلى ليبيا، تم توظيفي في المعهد الوطني الديمقراطي، أحد أكبر المنظمات الدوليّة غير الحكوميّة في العالم، وشاركت في العديد من الأحداث الهامة التي نظمها خرّيجو البرنامج المنتشرين في جميع المدن الليبيّة، وبعدها فزت بمنحة "فولبرايت" لاستكمال تعليمي وأنا الآن مقيمة في الولايات المتحدة وأقوم بإعداد رسالة الماجستير الخاصّة بي، يمكنني القول أنه وبفضل دعم عائلتي أولاً وهذا البرنامج ثانياً، فقد استطعت كسر العديد من التحدّيات والتابوهات التي وقفت عائقاً أمام العديد من الفتيات من جيلي، وتحقيق الكثير من الإنجازات الشخصيّة والمهنيّة، والخروج من منطقة الراحة التي كنت فيها نحو فرص أكبر وإمكانيّات أعلى، ولا يمكنني إلا أن أنصح الجميع بالمشاركة في هذه التجربة الثريّة والتي لن تعودوا منها كما كنتم، وستكتشفون أنفسكم من جديد من خلالها"

 

 

Nous avons besoin de votre consentement pour charger les traductions

Nous utilisons un service tiers pour traduire le contenu du site web qui peut collecter des données sur votre activité. Veuillez prendre connaissance des détails et accepter le service pour visualiser les traductions.